آخر الأخبار

2018/11/20

ورقة صغيرة من دفتر طفولة ضائعة


تحقيق /علي صحن عبدالعزيز

أسمه ، مصطفى نهر ،يتمتع بصفة الهدوء وطبعه جميل لكنه متعب ،مازالت طفولته تغفو على محياه ،وهو يجوب شوارع حي طارق ،نهاية مدينة الصدر ،تؤام صوته وهو ينادي (الگاهي ب 500دينار) مع صوت المؤذن أبو هشام ،وهو يحاول إن يستقطب طلبة المدارس ،لأجل شراء تلك القطعة اللذيذة في موسم الشتاء. عربانته ليست ملكا له ،وإنما استئجرها من صاحب محل الحلويات الذي يتعامل معه في منطقة الاورفلي ، تبدو متعبة مثله ولكنها تصافح إصراره ،بأنها مصدر رزقه الوحيد ،لتوفر إلى والده المقعد بسبب مرضه وأخته قطعة من الخبز يقضمونها مع أول لحظات عودته للمنزل ،استوقفته قليلا

وسألته: * ما الذي يدعوك مسرعا وتتوجه إلى مدرسة برير بن خضير الابتدائية ؟

- سأجيب على سؤالك ولكن بشرط أن تشتري مني ؟ *إواعدك بذلك . -كما تعلم أن وقت انتهاء دوام تلك المدرسة لم يبقى منه إلا القليل،وهذه فرصتي قبل أن يأتي صديقي حيدر ويأخذ مكاني .

*ولكنه صديقك؟ -الجوع يجعلك تتصارع مع أقرب الناس إليك في سبيل أن تبقى على سجل الحياة ،ليست هنالك قناعة، الكل في غفلة عن الفقير . *

أحسست بأنه دق بسمار على لوحة الضمير الإنساني ،فبادرته بالسؤال :

* متى تخرج من البيت ،حتى تجهز عربانتك ب(الگاهي)؟ -أستيقظ فجرا مع وقت الصلاة لنؤديها سوية مع والدي ،بعدها أودع والدتي وأقبل يديها ،ثم ترش الماء خلفي ،طموحا منها بأنني سأوفر متطلبات البيت .

* ماذا كنت تشتغل قبل هذه المهنة ؟ -أخاف أن اجاوبك! *لماذا ؟ -كنت أشتغل (عتاگ) أجمع علب الفافون واسلاك الصفر ،وابيعها إلى أبو سجاد . *قلت لي بأنك تخاف إن تجاوبني ،

*ماهو جانب الخوف بذلك ؟ -لا أخفيك سر ،بأن الحصار الأمريكي على إيران ،قد شّل حركة السوق بشكل كبير ،وإيران تشتري من جماعتنه تلك المواد . *طيب وضحت الصورة،لنعود إلى مهنتك قليلا ، قلت لي بأنك تتسوق من منطقة الاورفلي ،كيف تتعامل معه ؟ - بعد استيقاضي من النوم ،وأحلام إكمال الدراسة مازالت تدغدغ رموش عيوني ،فأول عمل أقوم به هو إرتداء هذه القمصلة الصوفية ووضع (الگلاوه) على رأسي خوفا من شدة البرد صباحا ،ثم إنطلق بالعربانة فجرا كما قلت اليك بإتجاه محلات الكعبي في منطقة الإورفلي ،وإنا بالطريق أفتش بعض أماكن رمي النفايات ،عسى أن أعثر على بعض الحاجيات حتى إبيعها على ابو سجاد. *

كم تشتري من قطع الگاهي يوميا ،وما هو سعرها ؟ -تختلف الكمية التي إشتريها مع أنخفاض درجات البرودة ،وكما تعلم بأن أكثر الطلبة يشترون الگاهي.
*لم تجبتي على سؤالي ،كم عدد قطع الگاهي التي تشتريها يوميا ؟ -ما يقارب كحد اقصى (150) منها ،وسعر الواحدة منها (250)دينار .

*ماذا يحتوي هذا الإناء من الألمنيوم ؟ -بداخله مادة (الشّيره) والتي تتكون من مادة السكر مضاف لها حبتين من الهيل ،وكذلك إضافة مادة (النيمندوزي) هكذا تعلمتها من بعض أصدقائي بالمهنة ،وانا قانع بما يرزقني ربي به .

* هل تدعوني على واحدة منها ؟ -أقسم إليك ،بأن عددها محسوب عليا،ولكنك واعدتني ان تشتري مني،أليس كذلك؟ *نعم قلت إليك هذا ،ولكن إلا ترى أن هذه الأحياء او المحلات السكانية ،ربما لا يشترون منك ،وأن هنالك أفضل منها ؟ - لا ،فالبعض مازال يهوى شرائها ،وخصوصا الأطفال والفتيان ،لأن طمعها لذيذ ،بالإضافة إلى نعومتها ، بعدها أتوجه إلى حي طارق/القديم ،فبيوتها متلاصقة ومتجاورة ،وإذا إشترى أحد الأطفال مني في هذه (الدربونة) فإن بقية أطفال (الدرابين الأخرى ) حتما سيشترون مني إلا ما ندر.

*ولكن هنالك مشاكل بالطريق ،مثل أغلب الدرابين ترابية ،وغير مبلطة وتتجمع فيها الحفر المائية ،ما يعني صعوبة البيع هنالك ؟ -لا تخف عليا ،فأنا ابن الملحه ،وقد حضرت لها العدة ومنها (صينيةالمنيوم) أضع فيها ما يقارب خمسين گاهية ،وإطرق الباب عليهم ،وهكذا نتدبر أمرنا ،فعندي عائلة ومسؤولية معيشتها تقع في رقبتي ، لابد من توفير بعض (الفلوس)خوفا من نوائب وتحديات الدهر.

*شاطرته تلك المعاناة ،فبعض الناس باعوا معايير الإنسانية وصلة الرحم ،وكان هموم (الفلوس) عدت اليه بالسؤال مجددا ،وتعابير الحزن مرسومة على وجهه،مصطفى متى تفكر بالزواج ؟ - لقد أكرمني الله تعالى ،بالتكفل بتدبير معيشة عائلتي وعندما أصل إلى عتبة العشرين ،فإن (النسوان) موجودة ،مثل فلانة وفلانة وتلك الطالبة وغيرها . *أخشى أن تكون في قلبك واحدة منها ؟

-ماذا تحب مني الآن ؟ فالفلوس أصبحت حديث الساعة ،لينتهي حديث ويبدأ آخر بها. هكذا كنت بحوار مع مصطفى نهر ،هؤلاء العصاميون يمكن الإعتماد عليهم في تحمل مسؤولية النساء والأطفال ،لكننا سنبقى نتأمل ان تشرق الشمس من جديد ،وتتكفل الدولة برعاية كبار السن ،براتب معتبر يكفي لمعيشتهم في حياة حرة وكريمة، لتخرج تلك الطاقات المتجددة إلى مسيرة الحياة والعطاء ،وهم يناغون الحبيبة ليغسل وجهه بالأمل المشرق والوضاء.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق